تقارير خاصة

اليمن ..من الثورة إلى الردع

إبراهيم الوادعي

بدت نيران اللهب وهي تشتعل من منشأتي النفط السعودي الأكبر في العالم في بقيق وخريص علامة استفهام للكثيرين في العالم، والذين سيجتهم وسائل الاعلام بكثير من الاسوار لمنعهم من الاطلالة على ما تقوم به المملكة السعودية أكبر مصدر للنفط في بلد فقير مجاور لها منذ خمس سنوات.

لا يمكن عزل نيران بقيق وخريص عن ثورة شعبية مهدت لأول مرة لبناء حقيق للدولة اليمنية ومكنت الشعب الفقير أو المفقر عمدا والغني بأصالته وحضارته من بناء قدرات تجاوز بها مرحلة الصمود إلى الردع رغم كل القتل والحصار والمأسي، ليهتز العالم المتغاضي عن مأساته وهو يقتل منذ خمس سنوات بسلاح امريكي واياد سعودية ودول غنية متحالفة معها على مشهد نيران اللهب تلتهم النفط.

لم يدر بخلد العالم أو تلك الجموع التي تحركت في ال 18 من أغسطس عام 2014م باتجاه العاصمة صنعاء لتعزيز الزخم الثوري أن تحركها لن يتوقف عند أسوار العاصمة وهز وارعاب مراكز القرار الإقليمي بل سيتعدى بعد خمس سنوات أثر ذلك التحرك وتلك الاستجابة الفريدة من شعب لقائده، ليهز العالم بأسره بعد خمس سنوات عبر بورصات النفط، من بورصة هونغ كونغ في اقصى الشرق الاسيوي وحتى بورصة داو في نيويورك اقصى الغرب.

مثلت ثورة ال 21 من سبتمبر صفحة ناصعة في التاريخ اليمني الحديث لجهة كونها ثورة يمنية خالصة في القرار والتمويل والأهداف النابعة إلى تحرير قرار اليمن من الوصاية السعودية والأمريكية، وإعادة أمجاد شعب ضارب بحضارته واصالته وبأسه في جذور التاريخ وبذلك شهد القران الكريم.

بين سبتمبر الثورة 2014م وسبتمبر الردع 2019م ثمة محطات انتقال وتحول، وعتبات صمود وصبر، ولبنات بناء وابداع ذاتي، يلد معها اليمن الذي نرى ملامحه اليوم وبدا العالم يتعرف إليه راغبا أو مجبرا مع كل لتر من الوقود يحصل عليه.

قبيل سبتمبر 2014م خاضت القوى العميلة والانتهازية بتوجيه من الأمريكي والسعودي المحاولة الأخيرة لثني قيادة الثورة عن المضي بأحداث التغيير الجوهري في موقع اليمن الدائر في الفلك الأمريكي وإخراجه إلى حيز مستقل فتوجه وفد حينها برئاسة عبد الكريم الإرياني ليفاوض السيد عبد الملك بدرالدين الحوثي على ما ظنه عرضا مغريا باقتسام الثروة، والتخلي عن دعم الزخم الشعبي والثوار، رغم أن النظام حينها كان يتحدث عن إفلاس وعدم قدرة على دفع الرواتب.

وفي ال 21 من سبتمبر 2014م انتصرت الثورة الشعبية وسقطت مراكز النفوذ الإقليمي المتعدد الأجنحة، وشهدت العاصمة صنعاء ثورة بيضاء خالية من سفك الدماء، بل مضى الثوار المنتصرون إلى مصافحة الشركاء في الوطن ليعمل الجميع على بناء الدولة واسترجاع السيادة فيما عرف باتفاق السلم والشراكة، الذي وقعته الأطراف اليمنية برعاية المبعوث الأممي حينه جمال بن عمر، والذي علق بأنه وللمرة الأولى يجد منتصرا يذهب إلى توقيع اتفاق عادل مع الطرف الذي يفترض بانه مهزوم.

سقطت في أعقاب ثورة 21 سبتمبر حكومة باسندوة المنبطحة بشكل زري لقوى الداخل والخارج، ووجدت السفارة الأمريكية نفسها غير قادرة على التأثير في المحيط بالصورة التي كانت عليها حتى مع بقاء الرئيس الخائن على سدة الحكم، فأوعزت إلى باقي سفارات الدول بمغادرة صنعاء الثائرة وهو ما كان، حيث شهد اليمن هجرة دبلوماسية بهدف الضغط على الثوار ومحاولة جلبهم إلى بئر العمالة، وبالتزامن مع ذلك عملت السعودية على الحيلولة أمام تنفيذ اتفاق السلم والشراكة عبر عملائها الذين وفر لهم اتفاق السلم والشراكة البقاء.

بعد 6 اشهر فقط من قيام الثورة ، وفيما كانت لاتزال غارقة في مخلفات النظام السابق ، وتواجه التعثر في إصلاح مؤسسات الرئاسة والحكومة، أعلنت السعودية من البيت الأبيض في واشنطن عن إطلاق الحرب على اليمن وثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، وسريعا ما أيد تلك الحرب المفاجئة أطراف سياسية داخلية مرتبطة بالرياض، رغم أنها كانت قد وقعت على اتفاق السلم والشراكة وفي المقدمة حزب الإصلاح ، فيما أطراف أخرى اكتفت بالتأييد السري رغم لبوسها لباس الوطنية، وانخرطت جميعها في مفاوضات تحت رعاية أممية في صنعاء ، كان من المقرر أن يلد بعد ساعات من بداية الهجوم الجوي آنذاك في مارس 2015م اتفاق سياسي توصلت إليه طاولة المفاوضات تعيد صياغة وإصلاح المؤسستين الرئاسية والحكومية ويؤسس لمرحلة انتقالية تفضي إلى انتخابات حرة ونزيهة.

أعلن الناطق باسم تحالف عاصفة العزم بعد ساعات من بداية الهجوم الجوي على العاصمة صنعاء والمحافظات اليمنية في 26 مارس 2015م اللواء أحمد عسيري أن التحالف سيطر على الأجواء اليمنية وأن الغارات لن تتوقف حتى إعادة الرئيس المستقيل عبدربه ونظامه الفاسد بالقوة إلى السلطة بعد أن كان فر إلى عدن ومنها إلى المملكة.

كانت موازين القوة عند اندلاع العدان على اليمن تميل بشكل كبير جدا لصالح ما سمي التحالف العربي، وتدفقت إلى الدول المباشرة للعدوان صنوف الأسلحة الدقيقة والجديدة وأفضل العقول العسكرية الغربية لإدارة العمليات القتالية التي تركزت في عامها الأول على القصف المكثف لكل البنى التحتية في اليمن، كما منحت السعودية صكا دوليا لشن الحرب وتغاضى المجتمع الدلي والمنظمات الدولية علن جرائم الحرب بحق المدنيين.

أطل السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في أول خطاب له بعد ساعات من إعلان الحرب على اليمن من البيت الأبيض، عارضا على النظام السعودي وقف الحرب والحصار، وداعيا الشعب اليمني إلى الصمود، وأكد حينها أن العدوان سيكون مصيره الفشل وأن هزيمة اليمن واستعباد اليمنيين من جديد غير واردة بالمطلق، خطاب رسم حينها خطوط الانتصار والمواجهة.

في مواجهة كل ذلك التحالف الغني بالأسلحة والمال والتكنولوجيا العسكرية المتطورة، كان الثوار قد ورثوا دولة مدمرة ذو مقدرات صفرية اقتصاديا وعسكريا، بل شكلت عبئا في المواجهة، فالجيش مفكك ومنقسم على نفسه بفعل عمليات الاستهداف الممنهج أو الهيكلة التي أشرف عليها الأمريكيون قبل ثورة ال 21 من سبتمبر 2014م، والدولة اليمنية تعتمد في الحياة على الاستيراد من الموانئ التي حوصرت.

بعد شهر من الحرب أعلن الناطق باسم تحالف العدوان من الرياض انتهاء ما سماه عاصفة الحزم، معللا ذلك بأنها حققت أهدافها وقضت على الصواريخ ومخازن الأسلحة الاستراتيجية أو ما تبقى منها للجيش اليمني، وأعلن في ذات المؤتمر إطلاق المرحلة الثانية المسماة عملية إعادة الأمل، والتي لم تختلف كثيرا عن عاصفة الحزم فاستمرت مئات الطائرات في قصف الأراضي اليمنية وارتكاب المذابح بحق المدنيين اليمنين، ولم تستثن أفراحهم أو مأتم الأحزان.

وفي الداخل اليمني كانت خطابات السيد عبد الملك بدرالدين الحوثي حفظه الله تشيد أساسات الصمود المرتكز إلى استثمار ماهو متوافر محليا لمواجهة العدوان والحصار، واستغلال العقول النيرة لبناء قدرات للمواجهة، وكان السيد عبدالملك يعلم أن المواجهة ستطول حتما وهو أطلق مصلح المواجهة وأن امتدت إلى يوم القيامة، إذ لم يكن هذا المصطلح اعتباطيا أو تعبويا بل واقعا أظهرت سنين الحرب وتطور قدرات الدفاع أنه شكل منهاج عمل يقوم على طول النفس لبناء قدرات عسكرية تستطيع اختراق منظومات التسليح الأجنبية لدى السعودية والإمارات لتضربهما في وقت لاحق، وتجبر الطرف الآخر على وقف الحرب تحت تأثير الألم .

لم يكن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أو أي من قيادة الثورة الشعبية يؤملون مطلقا في المسار التفاوضي أو الضغط السياسي لتوقف السعودية عدوانها.

وبالتوازي مع الحرب العسكرية دفع الحصار والحرب الاقتصادية ملايين اليمنيين إلى المجاعة، ومن لم يمت بالقصف مات بفعل الحصار والجوع وانقطاع الرواتب وانقطاع الأدوية المنقذة للحياة.

في يوليو من العام 2015م تمكن تحالف العدوان من السيطرة على عدن، ومناطق أخرى في الجنوب اليمني، ورغم ذلك فالشرعية التي تدثر التحالف باسمها لشن الحرب لم تعد إلى عدن وظل رئيسها الخائن لوطنه هادي مقيما في الرياض، بينما تقطعت مراحل تواجد حكومته في عدن وتعددت الصراعات في المدينة التي أعلنت عاصمة مؤقته، وانحصرت سيطرة حكومة الخونة على قصر المعاشيق وسط تنامي سيطرة إماراتية واضحة على الأرض، قبل أن يطيح بها التحالف بعد خمس سنوات وتفقد موطئ قدم لها على الأرض اليمنية.

مع بداية العام 2016م استكمل تحالف العدوان في شروره إنشاء أول كتائب عسكرية للمرتزقة اليمنيين المحسوبين على حزب الإصلاح، وكان مهمة هذه الكتائب من المرتزقة المحليين فتح الحرب البرية على نطاق واسع، وصلت اليوم إلى ما يزيد عن خمسين جبهة على امتداد الجغرافيا اليمنية.

وفي العام 2017م شرعت الإمارات بتكوين قوات موالية لها من المرتزقة الجنوبيين تابعين لها تحت مسمى الحزام الأمني والوية العمالقة، وكلا التنظيمين العسكريين ضما مجموعات تنتمي للقاعدة وداعش وفق تحقيقات استقصائية أجرتها ال بي بي سي ووكالات دولية غربية، وفتحت هذه التنظيمات والتشكيلات العسكرية جبهات خاصة بها لقتال حكومة الثورة في صنعاء، وأهداف أخرى تتجلى اليوم في الاقتتال الذي تشهده أجنحة المرتزقة..

كما شرعت السعودية في نهاية العام 2018م ومع استنزافها على الحدود في إنشاء الوية من المرتزقة تابعة بشكل مباشر لها للدفاع عن حدودها، يضافون إلى عشرات الآلاف المرتزقة الذين جرى استجلابهم من السودان وأصقاع العالم للقتال، والشركات الأمنية كشركة بلاك ووتر التي استجلبتها الإمارات لقتال قبل أن تجر أذيال الخيبة.

اتسمت الأعوام بين 2016 و2018 م باتخاذ قيادة الثورة والحكومة في صنعاء استراتيجية الدفاع والصمود في وجه الاندفاعة القوية لتحالف العدوان ومرتزقته، واحتواء توسع المعارك والجبهات المفتوحة على امتداد الجغرافيا اليمنية، وعدم تمكين التحالف من حسم أي من تلك الجبهات، كما استهدفت العمق السعودي بصواريخ معدلة كرسائل على عزم اليمنيين المضي بالقتال حتى الانتصار وتحقيق عملي لاستراتيجية القتال حتى القيامة.

وبالتوازي مع استراتيجية الدفاع والصمود في كلا الميدانين العسكري والشعبي، شهدت الأعوام من 2016 وحتى 2018م عمليات بناء ترسانة أسلحة متنوعه وفي المقدمة بناء أسلحة الردع، فنشطت دائرة التصنيع العسكري لدى الجيش واللجان لصنع مختلف صنوف الأسلحة، وأعلن الرئيس الشهيد صالح الصماد مطلع العام 2018م أن الجيش بات يصنع جميع أسلحته التي تحتاج إليها الجبهات محليا ودون الحاجة لاستيرادها من الخارج حيث يفرض العدوان حصارا خانقا، وفي مجال الأسلحة النوعية ظهرت أجيال من الصواريخ محلية الصنع كزلزال 1، 2 وصواريخ صمود وثاقب، ومن الصواريخ الباليستية، صواريخ زلزال3، وقاهر وأجيال صواريخ بدر الذكية والمتشظية وحديثا أعلن عن صاروخ قاصم المتشظي، وصاروخ قدس الجوال والذي استهدف مطار أبها جنوب المملكة.

في يونيو من العام 2015م وبعد فترة وجيزة من إعلان الناطق باسم تحالف عاصفة الحزم عن تحييد ما سماها الترسانة الصاروخية لليمنيين سقط أول صاروخ يمني على قاعدة الملك خالد الجوية في خميس مشيط، وفي سبتمبر من ذات العام قتل ما يزيد عن خمسين جنديا إماراتيا باستهداف معسكرهم في صافر كما استهدف صاروخ مماثل قاعدة للتحالف قرب باب المندب وأدى إلى مقتل قيادات كبيرة للتحالف بينها من جنسيات إسرائيلية واجنبية، وفي نوفمبر من العام 2017م قصف الجيش اليمني قصر اليمامة في ديسمبر 2017م بصاروخ بركانH2 وتتالت الضربات الصاروخية للعاصمة الرياض وفي يونيو من العام 2018م جرى قصف قصر الحكم السعودي المعروف بقصر اليمامة .

وبالتزامن مع بناء ترسانة صاروخية معدلة عن نماذج روسية وكورية كصواريخ بركان أو أخرى جديدة ومحلية كأجيال صواريخ بدر وقاصم، والتي تمكنت من اختراق منظومات الدفاع الأمريكية المتعدة والتي جرى جلبها إلى السعودية والإمارات تباعا، عملت قيادة الثورة على اجتراح مجال عسكري جديد وهو صناعة الطيران المسير، وكان بداية بغرض توفير معلومات ميدانية للجبهات والقادة العسكريين كطائرات هدهد وراصد قبل أن يعمل تطويره لتنفيذ عمليات كبيرة.

سلاح الطيران المسير اليمني ذو البصمة الردارية المنخفضة للغاية والبعيد المدى يعلن اليوم عن ولادة جيل خامس من الحروب يدشنه اليمنيون وهو الطيران المسير الذي يحول منظومات الدفاع الصاروخي المتطورة إلى خردة يمر بجوارها ليصل إلى هدف دون أن يجري اعتراضه.

ولقد حققت أجيال عدة من الطائرات المسيرة اليمنية كأجيال قاصف وصماد وأخرى ذات رؤوس انشطارية لم يكشف عن اسمها سمعة عالمية لنوعية الأهداف التي جرى اختيارها لضربها بهذا السلاح، الذي يتحول اليوم إلى سلاح رادع وفاتح لجيل جديد من الحروب يسمح للدول المستضعفة بمقارعة الدول الكبرى وتحويل أنظمتها العسكرية المتطورة إلى قطعة حديد عمياء.

ما بين خطاب السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي حفظه الله في الساعات الأولى للعدوان والذي رسم فيه 5 خطوط للمواجهة والصمود العسكري والشعبي وبناء القدرات للمواجهة التي لن تكون سهلة كما قال السيد حفظه الله، وخطابه في إعلان دخول الحرب مرحلة الردع اليمني في ال 14 من أغسطس عقب قصف حقل الشيبة، والذي تضمن التأكيد على بلوغ القدرات اليمنية مرحلة متقدمة لتحقيق الردع والإيلام، يظهر أن ارتفاع السنة اللهب من أرامكو في بقيق وخريص لم يكن وليد ساعته وإنما نتاج استراتيجية بناء وعمل من الصمود الشعبي والعسكري وبناء للقدرات العسكرية استهزئت به دول العدوان وتجاهله العالم الذي يكتوي اليوم بنتائج سكوته على جرائم الحرب بحق اليمنيين وعدم تعاطيه بجدية مع دعوات القيادة اليمنية ومناشدتها لوقف العدوان والحصار .

اشتعال السنة اللهب في منشئات النفط بالشرق الأوسط لن تتوقف وهي علامة أن العالم تأخر كثير ليكون له جميل إيقاف العدوان على اليمن، ومن الآن فإن أي جهود دولية لوقف العدوان لا يمكن أن يراها اليمنيون إلا من باب محاولة انقاذ الاقتصاد العالمي الذي لن يكون نفطه والعالم على أبواب فصل الشتاء أغلى من دماء اليمنيين.

المصدر : المسيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock