الأخبار العالمية

اقتصاد سوريا يقاوم النّزف رغم الجراحات

  • اقتصاد سوريا يقاوم النّزف رغم الجراحات

كانت سوريا، البلد القابع في قلب التحوّلات الدوليّة على امتداد التاريخ، محوراً وممراً إلزامياً لكلّ الإمبراطوريات. عصفت بسوريا الحديثة بعد جلاء الاحتلال الفرنسي العديد من الأزمات والانقلابات، إلى أن أتى الرئيس حافظ الأسد، قامتها الشامخة، وعمل ضمن منظومة الدولة لبناء اقتصاد قويّ ذي بنية إنتاجية، وخصوصاً أنّ بلاده تزخر بالخيرات والطاقات المميّزة. وقد نجحت هذه السّياسة في إيصالها إلى الاكتفاء الذاتي قبل العام 2011؛ عام بدء الحرب الكونية عليها.

كانت سوريا قبل الأزمة تتمتع بمميزات اقتصادية واجتماعية عدّة، وتملك قطاعاً زراعياً وصناعياً مهمّاً على مختلف الصعد. كانت نسب البطالة فيها متدنية، وكان التطوير العلمي قائماً على قدم وساق. 

إذاً، كانت البلاد تعيش نوعاً من الاكتفاء الذاتي صناعياً، وتصدّر إلى الخارج، وكان القطاع الزراعي يؤمّن الأمن الغذائي من قمح وحبوب وماشية، وكان النشاط السياحي في قمة ازدهاره، مع دخول حوالى 5 ملايين سائح في العام 2010، قبل أن تتبدَّل الصورة، وينقلب المشهد منذ آذار/مارس 2011، حين بدأت الأحداث التي استهدفت بشكل أساسي الاقتصاد السوري، فضربت القطاع الصناعي، ودمرت حوالى 135000 منشأة صناعية، ثلثها في حلب.

 كما سيطرت المجموعات المسلحة على حقول النفط والغاز التي كانت تؤمن حاجات الدولة، ما أدخل البلاد في أزمة غير مسبوقة، ففي حين كانت تنتج 300 ألف برميل يومياً، انخفض هذا الرقم إلى 40 ألفاً خلال الحرب. وتضاعفت هذه الأزمة مع بدء نظام العقوبات الأوروبية والأميركية، وآخرها قانون قيصر غير الإنساني.

وتعليقاً على الوضع الاقتصادي القائم قبل الحرب، يورد الباحث الخبير الاقتصادي زياد ناصر الدين في حديث إلى “الميادين نت” عدّة مؤشرات إحصائيّة، أبرزها: 

1.كانت سوريا الأولى عربياً من حيث الأمن الغذائي.

2.كانت الأولى عربياً في إنتاج القمح، وكانت بلداً مصدّراً لهذه السلعة الاستراتيجيّة.

3.كانت الثانية عالمياً في إنتاج القطن عالمياً، وهو ما جعلها إحدى أهم الدول العربية في صناعة المنسوجات.

4.كان قطاع صناعة الأدوية يغطي 90% من الحاجة المحليّة، ويصدّر إلى أكثر من 30 دولة بجودة عالمية، بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية.

5. وصل الناتج المحلّي فيها في العام 2010 إلى 64 مليار دولار.

يتحدّث ناصر الدين عن الوضع الاقتصادي في سوريا مع بداية الحرب، ويقول: “نجح الاقتصاد السوري في التأقلم مع الأزمة بمرونة عالية بعد سنوات من بدء الحرب، واستطاع التواصل مع الاقتصادات المحيطة”، مؤكداً أنّ الصناعة كانت عصب الاقتصاد السوري، كما كانت مساهماً أساسياً في الناتج المحلي، إلى جانب النفط والزراعة، لافتاً إلى أنّ الصادرات السورية وحركة السياح أمّنتا عملة صعبة للبلد، وأدّتا إلى استقرار العملة قبل بدء الأزمة، ما شجّع على طلبها.

يُعدّ الاقتصاد السوريّ أساس صمود الدولة بعد عقد على الحرب الكونية التي فرضت عليها، بفعل القدرة على تأمين الاكتفاء الذاتي للشعب، وإلا كانت ستغرق في مجاعة لا مثيل لها. يوضح ناصر الدين: “ما زالت مقومات الاقتصاد السوري صامدة. ولو تعرّض أيّ اقتصاد في العالم لحرب عالمية شبيهة بما حدث في سوريا، لحصل انهيار اقتصادي واجتماعي شامل”.

يعاني الاقتصاد السوري عزلة واضحة جرّاء العقوبات الأوروبية والأميركية المفروضة عليه، وآخرها قانون قيصر اللاإنساني، إذ يحظر التعامل مع سوريا على كل الصعد، ما يسبّب نقصاً في المواد الطبية وإمدادات القمح، إضافة إلى المحروقات والنفط والغاز. وتتضمَّن العقوبات حظر التعامل مع المصرف السوري المركزي والمصارف التجارية، ولوائح طويلة من العقوبات على شركات وأشخاص بتهمة الارتباط بالنظام.

تسبّبت هذه العقوبات بفقدان العملة الصعبة، جرّاء منع التحويلات إلى سوريا، وملاحقة المحوّلين، وأزمة انهيار الليرة في لبنان، إذ أدّى منع السوريين من سحب ودائعهم بالدولار من المصارف اللبنانية إلى شحّ كبير في العملة الخضراء التي تحتاجها دمشق لتأمين احتياجات أساسية، من قمح ومواد نفطية وطبية.

ويتوقّع ناصر الدين تدهوراً أكبر في سعر صرف الليرة السورية الَّذي وصل إلى 3500 ليرة سورية للدولار الواحد، جرّاء العوامل الاقتصادية والسياسية والعقوبات والتدهور الحاصل في لبنان، بينما كان وضعها مغايراً قبل الحرب. وقد تضاعف سعر الصرف 70 مرّة، ما أدّى إلى تآكل أجور الموظفين وانهيار القدرة الشرائية للطبقة الوسطى والميسورة.

ويشير ناصر الدين إلى أنّ هناك حرباً اقتصادية على سوريا، شأنها شأن الحرب العسكرية التي تمارس عبر جماعات مسلحة وضعت يدها على حقول النفط والغاز لمنع الدولة السورية من الاستفادة منها، إضافةً إلى المناطق الزراعية التي كانت خارج سيطرة الدولة، وتعرضت للإحراق والتدمير، كما يتعرض القطاع الزراعي لعمليات تخريبية إرهابية، وهو يستعيد دوره رويداً رويداً بعد سيطرة الدولة على جزء كبير من الأراضي السورية. 

تمتلك سوريا احتياطات ضخمة من الغاز في مناطق عدّة، منها تدمر وقارّة وساحل طرطوس وبانياس، ما يجعلها، إن تمّ استخراج هذا الغاز، ثالث بلد مصدّر للغاز عالمياً. لذلك، كان هدف الحرب عليها هو منعها من الاستفادة من ثرواتها. وقد تؤمن سيطرة دمشق على حقول النفط والغاز حاجات السوق المحلي بعد عمليات الإصلاح والترميم، لكن التصدير يحتاج إلى استثمارات واتفاقيات جديدة. 

يشير ناصر الدين إلى أنّ معظم المنشآت الصناعية التي سرقت من حلب، نُقلت إلى تركيا التي ساعد تدخلها في الشأن السوري في إكمال الحصار، كما أنها تحتلّ أراضي سورية، ويذكّر بأن التنافس بين الاقتصاد السوري والتركي كان قائماً قبل الحرب على الصعيد الصناعي، مؤكداً أن ما يجري هو أمر مخطّط له، بهدف ضرب قدرة الشعب السوري على الصّمود. 

حالياً، أصبح القطاع الزراعيّ قادراً على تأمين الاحتياجات الأساسية للداخل، ولكنه ليس قادراً على التصدير مجدداً، وما زال يعد القطاع الأساس في الناتج المحلي والاقتصاد السوري. يشرح ناصر الدين أنّ مناطق الشمال السوري ما زالت مشتعلة، وهي منطقة زراعة القمح، إضافة إلى الشرق السوري. والهدف هو إخضاع سوريا، وتدمير قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتحويلها إلى بلد مستهلك.

ويرى أنّ البلاد ما زالت تقاوم اقتصادياً في الصناعة والزراعة، على الرغم من العقوبات والحصار العالمي ومنع التعامل مع دمشق، ويربط عودة الاقتصاد السوري إلى الحياة والنهوض مجدداً بحلّ سياسي وبعملية إعادة الإعمار، ويقول: “عندما يرفع الحصار عن سوريا، سيتجه الاقتصاد السوري إلى التعافي من خلال الحل السياسي بالدرجة الأولى، وسينعكس ذلك على الواقع الاقتصادي”. وتقدّر كلفة إعادة الإعمار بمئات المليارات من الدولارات، لإعادة تنشيط الاقتصاد والقطاعات الإنتاجية وترميم البنى التحتية وإنشاء بنى جديدة.

وأخيراً، وبعد عقد من حرب شعواء على البشر والحجر والاقتصاد، وعلى كل إمكانيات سوريا وقدراتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والبشرية، هل سيعود الاقتصاد السوري إلى دائرة المنافسة قريباً، ويصبح مجدّداً مصدراً لرفد لبنان والعراق والأردن وتركيا ودول الخليج بصادرات تعيد الحياة إلى الاقتصاد، وتؤمّن فرص عمل، وتدرّ عملة صعبة على البلد، لينهض من كبوته؟ 

قد تكون الأسابيع والأشهر المقبلة كفيلة بإيضاح المشهد، مع التحوّلات التي بدأت المنطقة تشهدها، في ظل الحديث عن إبرام تسويات وتفاهمات لوقف النزاعات أو إنهائها بطرق سلمية، علماً أنّ سوريا على موعد قريب مع انتخابات رئاسية، فهل ينعكس واقع المنطقة الجديد عليها، فتعود لأداء دورها من جديد؟

 

المصدر : الميادين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock