الأخبار العربية

النيوليبرالية والاقتصاد بوابة التطبيع الالزامي

من الضروري  طرح السؤال التالي: كيف أصبح الاقتصاد بأكمله محكومًا بدافع واحد؟  ليس فقط على صعيد المكاسب  المالية  فحسب انما  أيضًا  في مجال  السياسة والعلوم والفنون وحتى في علاقاتنا الاجتماعية.

العالم – مقالات وتحليلات

إن تأثير السياسة على الاقتصاد إضمحل لا بل اختفى بكل بساطة. تخلى السياسيون عنها ، تاركين تلك السلطة في خانة الإملاءت المفروضة مباشرة من الشركات العملاقة .

لا وجود للرقابة الاجتماعية أو الاتفاقيات الديمقراطية في أي مكان يتعلق بمصالح الشركات العملاقة .إذ أن المصالح العامة تختفي، فقط من يتحكمون إقتصادياً في العالم يمكنهم ممارسة أحادية القرارات مانحين أنفسهم التراخيص التي يحتاجون إليها ، من “رخصة للنهب” إلى “رخصة القتل”، ومن يقف سداً منيعاً في طريقهم ، ممارساً سياسة ألحق في مواجهة مشروعهم ، يتعرض للتجريم لا بل يصنف على أنه “إرهابي” ، وهذه صفة تحمل في مضمونها تهديدات للتدخل العسكري و الحصار الإقتصادي مصحوب بعقوبات جائرة، كما هو حال العراق واليمن وسوريا وإيران ولبنان وفنزويلا.

إن النيوليبرالية والحرب وجهان لعملة واحدة. التجارة الحرة والقرصنة والحرب ، اليوم أكثر من أي وقت مضى تكون منظومة ثلاثية إستراتيجية متكاملة . ليست الحرب مفيدة للاقتصاد فحسب ، بل إنها أيضًا القوة الدافعة لها ويمكن فهمها على أنها “استمرارية للاقتصاد بطريقة أخرى”. لم يعد بالإمكان تمييز الحرب والاقتصاد عن بعضهما البعض. ونحن نشهد بالفعل حروب “الموارد الطبيعية”، خاصة على النفط كما هي الحال في (العراق – ليبيا – سوريا – اليمن – لبنان ) والمياه في (إثيوبيا – السودان – مصر) . تظهر الحرب مرة أخرى على أنها “المنفذ لتراكم رأس المال” ،على خريطة الوطن العربي واضعين مفاهيم حقوق الإنسان وحقوق السيادة و حق الحكومات في تقرير مصيرها تحت رحمة المطامع المالية والإقتصادية للمؤسسات العملاقة ناسفين مضمون السيادة كعمود فقري لتقرير المصير بعرض الحائط .

يتم إظهار السيادة على أنها منظومة مهترئة وقديمة ، لأنها في النهاية “تعرقل المصالح” إذ يتضمن “النظام العالمي الجديد” تقسيمًا جديدًا للعمل لا يتم فيه التمييز بين الشمال والجنوب والشرق والغرب. وتهيأ له الأرضية المناسبة ، فيتم سن قانون دولي فعلي من الأعلى إلى الأسفل ما يسمى بال TOP Down من أجل قمع جميع الحقوق الإقليمية والمحلية. وإمتداد هذا القانون لا يتوقف عند هذا الحد: فالكثير من هذه الحقوق تطال بشكل رجعي ومستقبلي بندي “التفكيك” و “التجميد ” في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية.

حسب منطق النيوليبرالية – كنوع من الفلسفة التجارية الاستبدادية الجديدة – تشكل فرضية مفادها أن جميع الموارد ، وجميع الأسواق ، وكل الأموال ، وكل الأرباح ، وجميع وسائل الإنتاج ، وجميع “فرص الاستثمار” ، والحقوق تنتمي جميعها حصريًا إلى أمراء الشركات العملاقة .

في الواقع إذ لا يقتصر منطق النيوليبرالية على المجال الاقتصادي فقط، فهي تخترق السياسة وتجيرها لمصلحتها حسب الأحداث المستجدة ، وراء هذا الإستبداد والظلم تكمن الحكومات الغربية والكيانات التجارية المؤسسات المنبثقة ما بعد الحرب العالمية الثانية كما بريتون وودز ، و البنك الدولي [WB] ، وصندوق النقد الدولي [IMF] ، ومنظمة التجارة العالمية [WTO] و الشركات الصناعية الزراعية العالمية لإقامة الاحتكارات العالمية التي تعتمد عليها حياة الإنسان بشكل كامل .

يمكننا الآن أن نفهم ما تعنيه عبارات مثل: “الأعمال الزراعية هي تجارة عظيمة “!

أمّا “أصبح القمح سلاحاً “! هذا الرأسمال الطائل تحركه المجموعات الاقتصادية القوية التي تدير الأموال العالمية ، ومن خلال بنوكها ، بما يسمى بصناديق الاستثمار ، يديرون عددًا لا يحصى من الشركات متعددة الجنسيات المخصصة لجميع المجالات: الطاقة ، الأسلحة ، الغذاء ، الاتصالات ، النقل والصناعات الكيماوية. ومن أشهرها جولدمان ساكس ، وروكفلر ، وجي بي مورغان ، ولوب كون ، وليمان ، ودو بونت ، وروتشيلد ، واربورغ ، ولازارد ، وإسرائيل موسى سيفس.

لنتوقف قليلاً عند إسم رئسي من هؤلاء وعلاقته المباشرة بالصهيونية العالمية وبقياديي الغرب مثل إمانويل ماكرون، جريد كوشنر، ترامب، أي أدواتهم وكما المشاريع المغروضة في الشرق الأوسط ، فآل روتشلد مثلاً : هم من داعمي العرش البريطاني حيث ال-99% من استثمارات الخليج الفارسي في مصاريفهم، و من مساندي إنشاء الكيان الصهيوني ، كما تكمن القوة المالية لبنك روتشيلد أيضًا في دعم الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ، وهي المؤسسة الخاصة المسؤولة عن إصدار الدولارات على مستوى العالم.

البنوك وصناعة الأسلحة والحروب التي لا نهاية لها والسيطرة على الموارد الاستراتيجية هي وراء اللوبي الصهيوني الذي يتحكم ويمول الكثير من السياسات الأمريكية حاليًا. وللتذكير رئيس مجلس إدارة المؤتمر اليهودي العالمي ، و الكيان الصهيوني العالمي الرئيسي ، هو البارون ديفيد رينيه دي روتشيلد.

إن العولمة النيوليبرالية التي فُرضت في العقود الأخيرة هي بالتأكيد حية جدًا في العواصم المالية الضخمة التي تدير جزءًا كبيرًا من العالم ، ولا سيما في استراتيجية “الشرق الأوسط الجديد” معمقةً السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في دول المنطقة ، مثل مصر والأردن و دول خليجية . أهم جانب من جوانب النيوليبرالية الجديدة في المنطقة هو تنفيذ اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية (FTAS ).

أبرمت الولايات المتحدة اتفاقيات تجارة حرة مع دول مثل البحرين وعمان ومصر والأردن والمغرب والكيان الإسرائيلي وتفرض اتفاقيات التجارة الحرة هذه على الدول المعنية بتفتح أسواقها أمام الشركات الأمريكية ، والنقطة الرئيسية لهذه الرؤية هي اندماج “إسرائيل” الاقتصادي والسياسي في المنطقة. من المهم جدًا فهم هذه النقطة: “التطبيع” هو الشرط الأساسي لMEFTA والرؤية النيوليبرالية للمنطقة .

من الأمثلة على الرابط الأساسي بين الليبرالية الجديدة والتطبيع هي العقود الثنائية لاتفاقية التجارة الحرة. يحتوي كل عقد من العقود المبرمة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة على بند يُلزم الدولة المعنية بالتطبيع مع “إسرائيل” ويحظر أي مقاطعة للعلاقات التجارية. إذاً التطبيع على اشكاله كان ساري المفعول فإتخذ اليوم الطابع الرسمي لا غير .

على مدى السنوات العشرين الماضية ، ساعدت وزارة خارجية الكيان الصهيوني أكثر من 500 شركة “إسرائيلية” أرادت التعامل مع شركات في دول الخليج الفارسي، مما أدى إلى صفقات بملايين الدولارات ، رجال الأعمال الصهاينة كانوا يقابلون أحيانًا مواطنين إماراتيين في معارض دولية و يستخدمون موظفين يحملون جوازات سفر غير “إسرائيلية” للسفر إلى هناك ، مع خصوصية عدم تحديد المنشأ للمنتجات على أنها مصنعة في فلسطين المحتلة.والنتيجة الطبيعية لهذه الرؤية التي تحركها الولايات المتحدة هي إنشاء منطقة اقتصادية ليبرالية جديدة تربط بين رأس المال الإسرائيلي والشرق الأوسط في محاولة متواصلة لكسر وانتهاك أشكال الإصطفاف الممانع والمقاوم، على الصعيدين الوطني والإقليمي للدول المتمسكة بالعداء للكيان الإسرائيلي بإعتباره كيان غاصب و معارضتهم للتطبيع.

السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط معنية بعزل وتدمير القوى المعارضة لرؤيتها فتستند استراتيجيتها التضليلية للحقيقة والواقع معللة سبب المشاكل في المنطقة ليس في الكيان الصهيوني أو الوهابية التي تروّج لها السعودية ، بل هي في الجمهورية الإسلامية إيران ، كما أن هذه الإستراتيجية هي قائمة على التحالف الأمريكي العربي الصهيوني كأداة ضد ايران التي تقود محور المقاومة، وكذلك منع تطوير طريق الحرير الصيني الجديد الذي سيستخدم ميناء جابهار في إيران، و أيضاً قائمة على عملية تطويق سوريا التي تمثل معقل المقاومة عبر الاستهدافات الممنهجة ، وإحراق أراضيها الخصبة ، وحقول القمح ، وفرض عقوبات قيصر ، يليها إغراق لبنان المقاوم بأزمات مالية و إقتصادية وتدمير العمود الفقري لاقتصاده مرفأ بيروت الذي يمثل العصب الجيوستراتيجي الأساسي لإنمائه و اقتصاده ، دون السماح بإحراز تقدم في موضوع التنقيب عن النفط ، ليصبح ميناء حيفا الذي يسيطر عليه كيان الاحتلال الإسرائيلي بديلا تجارياً لمرفأ بيروت مع دول المنطقة المطبعة.لهذا السبب ، يجب فهم التدخل العسكري الأمريكي في المنطقة على أنه ضروري من أجل “السلام النيوليبرالي“.

مع الاحتلال الأمريكي في العراق ، والتهديدات والمحاولات لزعزعة الاستقرار ومهاجمة إيران وسوريا ولبنان تساعد الولايات المتحدة وتمول تلك القوى التي تتوقع أن تكون تابعة لمصالحها في المنطقة بينما تواصل التطبيع مع الكيان الإسرائيلي كما تفعل الحكومتان الأردنية والمصرية ،و الإمارات التي تلتهما.

فهي تحاول الحد من قدرات دول المنطقة لممارسة سيطرة مستقلة على السياسة الخارجية أو الاقتصادية للدول الحرة حيث للقضية الفلسطينية مكانة مركزية في نضالها الإقليمي الأوسع ضد الإمبريالية والصهيونية ، أما محاولة تعميق الانقسام في الصف المقاوم أمر جوهري بالنسبة لمخططها من أجل نجاح المشروع النيوليبرالي في المنطقة و هدفه المباشر هو التطبيع مع الاحتلال ، خدمةً لرؤيتها لمصالحها الإقتصادية الإستراتيجية المنبسطة على خريطة الشرق الأوسط .ضمن هذه الخريطة المرسومة والتي اتضحت معالمها اليوم ، تصبح الضفة الغربية، التي اعلن ضمها ترامب للكيان بطريقة تعسفية وبمباركة خبيثة اماراتية ، أكبر بوابة “لإسرائيل” في الشرق الأوسط.

من الواضح أنها الطريق المعبدة التي تمتد من الشرق إلى الغرب على طول الضفة الغربية والتي تربط المدن في فلسطين المحتلة في البحر الأبيض المتوسط بالمستوطنات في غور الأردن ، مصممة بشكل واضح لما هو أكثر بكثير من حركة المرور المحلية: فمن المخطط لها أن تعمل كقنوات تجارية بين الكيان الإسرائيلي والخليج الفارسي (من خلال الأردن والضفة الغربية). يتقاطع نجاح MEFTA ، والتطبيع الموازي مع “إسرائيل” في الشرق الأوسط النيوليبرالي ، بشكل مباشر مع الاستكمال الناجح لهذه العملية لذلك يترجم ويفسر هذا التضييق الداخلي و الدولي على المقاومة حزب الله في لبنان .

في صلب هذا الإطار الإقليمي، تتمركز العلاقة الجوهرية بين تطور الرأسمالية النيوليبرالية في الشرق الأوسط وتطبيع العلاقات مع الاحتلال فتهدف كل الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة والأنظمة التابعة لها في المنطقة إلى تعزيز هذه القضايا المترابطة.

ليس من باب الصدفة أن تكون أهم النقاشات في اللقاءات الإقليمية حول سبل تشجيع المشاريع المشتركة بين (تل أبيب) والعواصم الإقليمية لبذل جهود كبيرة في تخطيط مناطق صناعية مؤهلة، لهذا السبب أن العقود الثنائية لاتفاقية التجارة الحرة الأمريكية تتطلب توحيد المعايير مع كيان الاحتلال .

الأوراق كشفت و اللعبة بدأت، ولا تملك الإمبراطورية وحليفتها “إسرائيل” سوى حجة العدوان والتخويف والحرب ضد محور مقاوم أكثر اتحادًا وخبرة عسكرية تراكمت في حرب سوريا والعراق واليمن، في خضم تحولات إقتصادية عالمية ، دون أن تتمكن الأنظمة الملكية من خرقها ، فالمقاومة للمشاريع المغرضة في المرصاد.

هذه الوحدة الممانعة ذات الوضوح السياسي، حيث التصميم على القتال دون التنازل أمر حتمي و واقع ملموس الى الأرض ، يمكننا القول دون تردد ، إنها ستحقق النصر وتحرير الأراضي العربية المحتلة ، واحدة تلو الأخرى ، وما أمام الدول المطبعة سوى الندم فهي وقعت فريسة حيتان العالم المظلم النيوليبرالي الذي لا يفقه سوى العيش على مصّ الدماء ….لهم نقول: إلا إني أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض!

الدكتورة ايزابيل فرنجية* –محامية في القانون الدولي

المصدر : قناة العالم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock