مقالات

لمَن البقاء؟

العالم قد تغيّر وهو في طور حقيقي لعالم مُتعدِّد الأقطاب يرفض الهيمنة والاستعمار والعقوبات ويعود إلى المنطق البسيط وهو أنّ حقائق التاريخ والجغرافيا تتفوّق على كلّ التهويل الإعلامي التي تجاوزه وعي الناس. البقاء هو للشعوب المؤمِنة بحقوقها والمُدافِعة عن هذه الحقوق في وجه كلّ أشكال الظلم والهيمنة والعقوبات والتاريخ حافِل بالأمثلة الناصِعة على مرّ الزمان والأجيال.

في متابعةِ المشهد السياسي الإقليمي والدولي يحتاج المرء إلى الكثيرِ من التعمّقِ والحَذَرِ كي لا يخلط بين ظواهِر الأحداث وبين المُجريات والمُسبّبات الحقيقية لهذه الأحداث والتي تشكّل الركائز الأساسية للتطوّرات المُستقبلية. فقد أصبح من نافِل القول اليوم أنّ العالم يتّجه إلى شكلِ عالمٍ مُتعدِّدِ الأقطاب تقوده الصين وروسيا مع الإنكار التام الذي تُمارسه الولايات المتحدة لهذه الحقيقة والتي وإن كانت في مسارٍ مُتطوّرٍ غير نهائي اليوم إلا أنّها حقيقة واقِعة لا تراجُع عنها.

وللتغطية على هذه الحقيقة وأهميّتها تقوم الدول الغربية بين الحين والآخر بذرِّ الرمادِ في العيون وإيهام العالم أنّ شيئاً لم يتبدَّل أبداً وأنّ القوّة المُطلَقة مازالت بيد الغرب أملاً منهم بوقف مسار التاريخ. ومن هنا نلاحظ التعويض في الإعلام الغربي وتضخيم أيّة ظاهرة يُمكن أن توهِمَ الآخرين أنّهم مازالوا مُمسكين بزِمام الأمور ومُمارسة أيّ نوع من السياسات لفَرْضِ هذا الوَهْم كواقعٍ في أذهان المُراقبين.

من ناحيةٍ أخرى تقوم الدول التي من الواضح أنّها شكَّلت عالِماً مُتعدِّد الأقطاب وعلى رأسها الصين وروسيا باتّخاذ خطواتٍ ثابتةٍ واستراتيجيةٍ لتثبيت هذا الواقع الجديد والتشبيك مع أكبر عددٍ من الدول بما فيها الدول الأوروبية المحسوبة سابقاً على المحور الغربيّ. ومن هنا تأتي مُبادرة جمهورية الصين الشعبية لمدّ جسور عَمَل حقيقي للتعاون مع ألمانيا وفرنسا خطوة استراتيجية تصبّ في إعادة تشكيل العالم الجديد. كما أنّ مُقاربات روسيا الاتحادية لدول أوروبية عديدة وعلى رأسها ألمانيا وإيطاليا واليونان تخدم ذات الهدف أيضاً.

هذا ناهيك عن نشاط روسيا والصين مع الهند والباكستان والبرازيل وفنزويلا ودول يورو آسيا ومدّ الجسور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية معها والدفاع عنها في مجلس الأمن وممارسة حقّ الفيتو لصالح سيادتها واستقرارها في وجه المحاولات الغربيّة التدخّل في شؤونها الداخلية وتغيير أنظمة الحكم في هذه البلدان. وفي هذا السياق يأتي التطوّر الذي نَجَم عن الحرب على سوريا والذي لم يقتصر على دَحْرِ الإرهاب في سوريا، ولكنّه تطوَّر إلى تحالف مقاومة بين سوريا وإيران وحزب الله، هذا المحور الذي يحاول العراق أن يكون جزءاً فاعِلاً فيه ليكتمل الخطّ البرّي المقاوِم، فيواجه التهديدات الأميركية والتي تحذّره من العلاقة مع إيران والعلاقة مع سوريا ولكن هذه التهديدات يمكن وضعها في إطار المحاولات الغربية للتمظُهر بمظهر القوّة وإبراز العضلات، الأمر الذي لا يمكن أن يقف في وجه التاريخ والجغرافيا، لأنّ حقائق التاريخ والجغرافيا أثبتت أنّها الأقوى وأنّها القادِرة على البقاء والتأثير في تشكيل العالم وعلاقاته، والمُراقِب يلحظ أنّ التراجُع الاستراتيجي الحقيقي للغرب مقابل التقدّم الاستراتيجي الحقيقي للأقطاب العالمية الصاعِدة يدفع الغرب للتصرّف بتهوّرٍ لإثبات عوامل قوّته ويتّخذ من التغطية الإعلامية الموجّهة سنداً لتبرير تصرّفاته وإسداء بعض المنطق عليها.

ففي قمّة العشرين اضطر الرئيس ترامب التراجُع عن معظم التهديدات التي أطلقها في الإعلام لجمهورية الصين الشعبية، ووجد لابدّ من التوافق معها على عددٍ من القضايا وذلك نتيجة تشابُك مصالح الشركات الأميركية مع الصين. وفي قضية فنزويلا لعبت روسيا دوراً رائِداً في مُساندة فنزويلا للحفاظ على سيادتها في وجه التهديدات الأميركية، وفي مسألة التهديدات الأميركية لإيران وقفت روسيا والصين موقفاً صُلباً ضد العقوبات على إيران وأعلنتا أنّهما لن تلتزما بالعقوبات الأميركية على إيران، والقائمة تطول.

في أعقاب قمّة العشرين والانتصارات التي تحقّقت للتعدّدية القُطبية والتي تكذّب كلّ التهويل الإعلامي الذي يحاول أن يُعطي الانطباع وكأنّ العالم في حال سكون على ما هو عليه، وعقدت الولايات المتحدة ورشة البحرين لهَضْمِ الحقّ الفلسطيني، وكانت هذه الورشة محاولة من محاولات التمظهر بالقوّة ولكنّها لم ولن تُفضي إلى نتائج ولا تستطيع مثل هذه المحاولة أن تُلغي حقوق شعب مقاوِم في أرضه ودياره. وفي أعقاب ورشة البحرين لجأت المملكة المتحدة ويإيعاز من الولايات المتحدة إلى قَرْصَنة ناقلة النفط غريس في جبل طارق للاشتباه بأنّها تنقل النفط إلى سوريا وتخرق العقوبات الأوروبية على سوريا. إذ مازال جبل طارق مُستعمرة بريطانية ومازال أسلوب العقوبات أسلوباً استعمارياً ضد مصالح وحقوق الشعوب يفرض عقوبات جماعية على شعوبٍ بأكملها ضدّ كلّ القوانين والمواثيق الدولية. والمُخجِل في الأمر أنّهم أعلنوا أنّ القَرْصَنة تمّت بناء على الاشتباه والاعتقاد أنّ الناقلة تحمل نفطاً إلى سوريا وهي بعيدة آلاف الأميال عن الساحل السوري. لاشكّ أنّ هذه الأساليب اللا قانونية واللا إنسانية تفرض مُعاناة مُجحِفة على الشعوب ولكنّها أساليب المُفلِس والعاجِز عن إحداث فرقٍ حقيقي في مسار الأحداث الاستراتيجية فيلجأ إلى أيّ أسلوب يمكن أن يُسبِّب الأذى كي يُبرهِن على أنّ مازال قوياً وقادِراً على فَرْضٍ هيمنته وعقوباته على العالم.

كلّ هذه الأساليب التكتيكية في جوهرها هي ارتدادات لخسارةٍ استراتيجيةٍ يُعاني منها القطب الغربي والذي فرض هيمنته على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا يريد أن يُصدِّق اليوم أنّ تلك المرحلة قد انتهت وأنّ العالم قد تغيّر وهو في طور حقيقي لعالم مُتعدِّد الأقطاب يرفض الهيمنة والاستعمار والعقوبات ويعود إلى المنطق البسيط وهو أنّ حقائق التاريخ والجغرافيا تتفوّق على كلّ التهويل الإعلامي التي تجاوزه وعي الناس. البقاء هو للشعوب المؤمِنة بحقوقها والمُدافِعة عن هذه الحقوق في وجه كلّ أشكال الظلم والهيمنة والعقوبات والتاريخ حافِل بالأمثلة الناصِعة على مرّ الزمان والأجيال.

 

بقلم : بثينة شعبان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock