مقالات

بناء الإنسان قبل بناء الأوطان

إبراهيم محمد الهمداني


حين تُغيّب الحقائق قسراً، يصبح الوهم هو الملاذ الوحيد، والمحيط البديل الذي يبني فيه الإنسان علاقاته وحياته، وحين تبلغ الحياة ذلك الحد من المأساوية، يصبح الضياع طريقة مُثلى للحفاظ على ما تبقى من الإنسان بشكل عام.

وفي ظل وضع كهذا يتكاثر صناع الوهم وتجار الحروب والأزمات، ويُنصبون أنفسهم أصناماً متنفذين ونافذين في حياتنا بأكملها، متنكرين في مسوح المخلصين المصلحين، المدافعين عن القيم الوطنية والمبادئ الإنسانية، الأمر الذي يجعلنا نملِّكهم أرواحنا طواعية، ونمنحهم الصلاحية المطلقة في كل أمور حياتنا، سواء الخاص منها أو العام، كل ذلك لأننا رأينا فيهم الأمل الوليد والخلاص المنتظر، الذي انبثق ليبدد ظلام يأسنا دون مقابل أو أدنى جهد منا، فألزمنا أنفسنا تجاههم بكافة أشكال الطاعة والولاء، وتهافتنا إليهم بقلوب مترعة بالشكوى والألم، وأرواح تغصُ بالضياع والغياب، أفصحنا لهم عن خوف أجيال تعاني الموت البطيء،والتهميش الدائم والشتات المزمن، وقصصنا لهم بكل اللغات وقائع تفصيلية عن مأساة دائمة الحدوث، نسميها مجازاً حياة نعيشها.

وكما هي عادتهم يبتسمون حتى نظن أن خلاصنا قد تنزل عليهم، ولم يبق غير أن تلفظه أفواههم، وتنشر بشراه على وجوهنا ألسنتهم، فنبادلهم بابتسامة تفاؤل ونصغي إليهم، فإذا بهم يحدثوننا عن جمال الطبيعة، وسحر الشروق ولغة الأزهار، وغناء العصافير في مهرجانها الصباحي، يحاولون إقناعنا أن سبب شقائنا ليس الجوع والامتهان والضياع، وإنما هو عدم إحساسنا بالجمال، وتلمس مظاهره حتى في الصخرة الصماء، يتعالون في خطاباتهم وكأنهم فلاسفة الجمال، وأرباب الذوق، وأساطين التأمل والبحث، متخذين من الحديث عن الجمال والمشاعر الإنسانية غطاءً لجرائمهم ووحشيتهم التي يمارسونها ضدنا.

وليس ذلك فحسب، فمن أدركه العجز منهم وتساقطت أنيابه ومخالبه، سرعان ما يتحول إلى واعظ بيننا، يحثنا على الثبات والسمع والطاعة والصبر على المكاره، والحفاظ على مشاعر الآخر، ولو كان ظالماً، وإن أفضل الكلام كلمة “نعم”، مستعيذاً من كلمة “لا”، وعلى هذا المنوال يستمر في وعظه، بينما يغمر عينيه شوقٌ عارم إلى مخالبه العالقة في قلوبنا، وأنيابه التي استقرت على ظهورنا، بعد أن انتزعت آخر ما تبقى من أجسادنا المهترئة.

لقنونا العديد من المفاهيم التي لم نعِ كُنهها، لأنها خالفت ما ارتسم في عقولنا، وما أوحت إلينا فطرتنا عنها، حتى أصبحت تلك المفاهيم صورة واضحة تعكس حقيقتهم، إذ طالما فرضوا علينا مفهوم الحرية الممزوجة بالقيود، وكرسوا حرية الاختيار في ظل الخيار الواحد، ومنحونا ديمقراطية العصى الغليظة “الصميل”، وألبسونا مواطنة المنفى، وكللونا بتيجان الموت ونحن أحياء، وأقاموا لنا الحدائق والمتنزهات والملاهي و…إلخ، في ظل انعدام لقمة العيش وضروريات الحياة وأبسط مقوماتها، وفوق هذا وذاك أرغمونا على الاقتناع بأن من يقول “لا” ليس منا، وهو شريك إبليس وخادمه.

بقي لنا أن نتساءل: ما قيمة الدار إذا فُقدَ الوطن؟ وأي أثر سيتركه جمال الطبيعة في البطون الجائعة والعقول المقموعة، وأي قيمة إنسانية سيحظى بها الإنسان في حال ضياعه وتهميشه؟

هل التفات الحكام إلى شعوبهم خادش لكبريائهم؟ وهل توفير لقمة العيش للمواطن كثير عليه؟ ألم يكتف أولئك الساسة بنهب الثروات وتدمير الإنسان، وأنهم رغم ذلك لم يُسألوا عما كانوا يعملون؟.

وأخيــراً..
أيقنَّا أن بناء الإنسان قبل بناء الأوطان، وأن كلمة “لا” لن تكلفنا أكثر من موتنا في “نعم”، وأن تكريس الصنمية وهم زائف، وسياسية الوهم صنمية زائلة، ومن المعيب أن نستبدل صنماً بصنم، ووهماً بوهم آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock