مقالات

أميركا بين الحرب الأهلية أو عَزْل ترامب

أميركا بين الحرب الأهلية أو عَزْل ترامب

بغضّ النظر، إذا عُزِلَ ترامب أو تمَّت مُحاكمته في مجلس الشيوخ، فإن سياسة أميركا بين فكّين: الحرب الأهلية أو مواجهة العالم بمُفردها.

صحيح أن توماس فريدمان مُحقّ في قراءة مُتأنيّة لخطاب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير “أن بلير مُحِقّ في رأيه عن الدور الذي وضعه القَدَر على أكتاف الأميركيين”، إلا أنهم وبعد سنوات عدّة باتوا مُجهَدين من هذا الدور، وأميركا تحتاج إلى فترة راحة بعد عقودٍ من سياسة الاحتواء للاتحاد السوفياتي، التي بُنيَت أثناء الحرب البارِدة، تبعتها سياسة “التوسّع” التي جاءت بعد سقوطه، وقامت على “تكبير مساحة الديمقراطية في ضوء القوّة التي لا تُضاهي أميركا في مرحلة ما بعد الحرب البارِدة”.

حاصِل تلك القوَّة اليوم الإفلاس، فالرئيس ترامب وبناء على شعاره “أميركا أولاً” وباعتبار دول الخليج مُجرَّد “بقرة حلوب”، لم يعد قادراً على فَهْمِ المُتغيِّرات من حوله، فضلاً عن تنامي الدول الصاعِدة مثل روسيا، والصين، وإيران، والهند. كيف يتصرَّف إزاء قضايا مُعقَّدة ودامية صنعها لنفسه بنفسه؟

يقول مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق فيليب جي كرولي، “إن الوضع الراهِن في سوريا يُعدّ كارثة صنعها ترامب، وهي كارثة قد تؤدّي إلى خسارته الانتخابات الرئاسية في العام القادم”. ويضيف كرولي ”ترامب يستمر بالتصرّف وكأنه عدو نفسه اللدود”. وفي خطاب موجّه إلى إردوغان يبدو واضحاً هذا المستوى من اللاوعي لدى ترامب، فضلاً عن القلق والاشمئزاز معاً، يقول: “سينظر إليك التاريخ على أنك شيطان إذا لم تحدث أمور جيّدة”، ويردّ إردوغان بنفس الخطأ السياسي. يرمي الرسالة في سلّة المُهملات.

أما روجر آيلز، رئيس محطة “فوكس نيوز” الذي استقال، فسيتخف بسياسة التهوّر المتعلقة بترامب: “إذا كنت ترغب في الحصول على وظيفةٍ في التلفزيون، فترشّح لمنصب الرئيس أولاً”.

أما الصحافيان بيتر بيكر ولارا جاكس، من صحيفة “نيويورك تايمز” فيقولان “إن ترامب ألقى بالسياسة الشرق أوسطية في أتون الفوضى، وقد صار محل سخرية من الجميع، وقد أثار موجة من السُخرية والانتقاد من مسؤولين ونشطاء بسبب قوله إن أميركا ستبني جداراً على حدود نيو مكسيكو وآخر في كولورادو”، الولاية الواقعة في وسط البلاد ما يُثير موجة من السُخرية.

أطلق مُقدّم برنامج GPS على شبكة “CNN” الأميركية، فريد زكريا عليه وصف “النمر الوَرَقي”،  وقد هاجم ترامب أعضاء في حزبه ووصفهم بـ”حُثالات البشر”.

الحاصِل من كل تلك الانتقادات أن الرئيس ترامب ليس رجل سياسة وأنه بالتالي سيذهب بأميركا إما إلى حربٍ أهليةٍ وإما إلى حربٍ عالميةٍ ثالثة، خاصة وأن الصراع على أشدّه بين أميركا والصين ومن ورائهما روسيا وإيران، إذ ليس لديه رؤية تُعبِّر عن استراتيجيةٍ باردة، وبالتالي هل انتهى عصر الهيمنة الأميركية؟ كذلك عصر الكيل بمكيالين في مواجهة مشاكل العالم؟ وهل فعلاً نحن أمام نظام دولي جديد تلعب فيه روسيا والصين دور المُحرِّك الأساس لإعادة السيادة للقانون الدولي واحترام مبادئ حقوق الإنسان فيه وفق الأُسُس التي قام عليها؟ أم أن الأمر مُجرَّد تجويف في الأحداث تم تركها تسير وفق الغاية التي تُبرِّر الوسيلة كما يقول ميكيافيلي؟

الواقع المُشاهَد في المُتغيِّرات السياسية لكثيرٍ من البلدان ضد القُطبية الواحدة، وضد تبنّي الأخطاء لحساباتٍ سياسيةٍ أميركية يؤكِّد أن عصر الجنون الأميركي في طريقة نحو الزوال. روسيا رغم قوَّتها هي أيضاً تضرَّرت من مواقف الغرب وأميركا. مواقف أقل ما يُقال فيها إنها مُبتَذله وإنها تشبه النار في الهشيم ضد كل ما هو إنساني ومبدئي.

الصين أيضاً تضرَّرت رغم أنها قوَّة اقتصادية كبرى تفوق اليوم أميركا رغم أنها أُحيلت لسنواتٍ عدّة إلى مؤخّرة الأحداث واتّهمت زوراً بأنها لا تحترم حقوق الإنسان، وهي اليوم تردّ بقوَّةٍ على دُعاة التوجّه اللاأخلاقي واللامسؤول الأميركي في مجلس الأمن بعد أن أصبحت أميركا في قبضتها بالديون التي لها على أميركا.

نحن نعيش فعلاً الحالات الاستثنائية السيّئة الأميركية، في السياسة وفي الاقتصاد، وحالات التراجُع المُفجِع للقوى الضاغِطة معها في مجلس الأمن بعد أن رفعت الصين وروسيا أيديهما في مجلس الأمن، وبعد أن انتصرت سوريا في حربها الكونية وأعادت الأوراق الخاسِرة إلى أصحابها بأوراقها الرابِحة، وقد كان الغرب وأميركا في خطّتهما تقسيم المُقسَّم في الوطن العربي بكامله، وإبراز الدور الإسرائيلي كقوَّةٍ وحيدةٍ فيه كونها قاعدته العسكرية الأمامية، وقد قالها الوزير الإسباني السابق أزنار “إن سقوط إسرائيل يعني سقوط أوروبا”، وقالها المشؤوم أوباما “لقد حقَّقت لإسرائيل ما لم يُحقّقه أحد”.

لكن روسيا والصين قالتا بلهجة التحدّي نريد أن نُعيد للقانون الدولي هيبته وللعدالة الدولية مكانتها، وهذا هو جوهر الصراع بين القوى الجديدة الصاعِدة والقوى القديمة المُتهالِكة.

وأخيراً أدركت أميركا ببعض مُفكّريها ومؤسَّساتها التشريعية أنها أخطأت في سياستها الخارجية وعلى مدى عقودٍ من الزمن، وأنها ورَّطت جنودها في لعبة الدم وعلى مساحاتٍ واسعةٍ خارج حدودها من دون حصاد يُذكَر، ما عدا خسائرها في الأرواح وما خلّفته وراءها من خراب، وأن المقاومة في أية بقعة من العالم بإمكانها أن تصنع ما لم يكن قد خطر على بال صانعي سياسة الخراب للعالم، من البيت الأبيض أو من خارجه.

المقاومة وعبر التاريخ تنتصب مثل شاهِد الرُخام لا يصدأ ولا تلعب به الرياح، ذلك هو منطق التاريخ ومنطق الأحداث التي ساقها لنا المؤرّخون والكُتب السماوية، على أن الاحتكام إلى منطق القوّة وجعلها بداية النهاية لأية أمَّة او أيّ تغيير لنظامٍ أو تقويض لحكوماتٍ تعوزه المُبرِّرات التاريخية والجغرافية معاً.

كانت ألمانيا في عهد النازية قوَّة عسكرية هائِلة، وخاضت بهذا المنطق حرباً عالمية هلك فيها الحرث والنسل. ومع تلك القوّة والجبروت فقد سقطت ألمانيا بمُجرَّد أن التزمت الشعوب المقصودة بحرب المقاومة، بالإضافة إلى العناصر الفاعِلة في المجتمع وانهارت القوَّة أمام المقاومة.

إن الشعور الوطني إذا ما تمّ اشتعاله كخزين وطني إيجابي قادِر على صدّ الغزو ولو كان صادِراً من إمبراطورية تمتلك ما لا يمكن عدّه أو حصره من أدوات الخراب. لقد خسر نابليون كل حروبه رغم أنه ظنّ أن ضمّ العالم إلى معطف الإمبراطورية الفرنسية التي كان يُشرِف عليها ممكن وأمر مُتاح له وبأقل الخسائر، وخسر ومات ذليلاً أمام أعدائه في “هيلانة”. وخسرت أميركا حرب فيتنام رغم عتادها العسكري اللامحدود، وعادت تجرّ أذيالها من دون أن تُدرِك ضعفها إلا في شيء واحد هو أن الشعوب إذا اختارت المقاومة، اختارت الانتصار ولو طال أمد الحرب.

والآن كل الشواهِد والدلائل تقول إن المقاومات في كلٍ من لبنان وفلسطين واليمن قد بدأت فعلاً تصنع بصار النصر، وإنها قاب قوسين أو أدنى من تحميل “إسرائيل” وأميركا مأساة تاريخية قد تفوق مأساة أميركا في فيتنام بما لحقهما من بؤسٍ نفسي وشللٍ ذهني. ذلك أن سياسة أميركا الخارجية اليوم برعونة ترامب بعيدة عن منطق التاريخ، ما جعل أميركا اليوم في حال انحدار إما بسبب الخراب الذي يُلاحِق الأرض التي حشرت فيها تحت غطاء نشر الحرية ومقاومة الطغيان، وإما بسب سوء الفَهْم من ترامب نفسه للواقع الدولي الجديد، والذي يبدو فيه كمُهرِّج لا كرئيس.

تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية في وصف سياسة ترامب ”إنه كل يوم يُقدِّم دليلاً إضافياً على عدم أهليّته للمنصب وأن الحَريّ به العودة إلى العمل كمُقدَّمٍ تلفزيوني”.

إن الأحداث الجنائزية التي حاولت الإدارة الأميركية استغلالها بعد افتعالها لمصالح تواجدها في مناطق عدّة في العالم هي نفسها صنعت لها حقائق بائسة حوصِرَت بها داخلياً وخارجياً،  وحوصِرَت معها “إسرائيل”، فقد قال الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصرالله: “نحن سنواجه المُسيَّرات الإسرائيليّة في سماء لبنان، وعندما تدخل لبنان سنعمل على إسقاطها”. وقد تمّ إسقاطها فعلاً، ثم أن مطالبة أميركا برحيل الرئيس الأسد وتغيير النظام في سوريا هي من حيث المبدأ والأساس من أجل القضاء على المقاومة وبناء منطقة في الشرق الأوسط تُسيّرها أميركا وكأنها تودّ أن تقول للعالم إن كل قوانين الأرض والسماء يجب أن تخضع لرؤيتها واجتهادها الدموي.

إنها بهذا المنطق المُتعالي عن الحقائق تبدو الدولة الأكثر إرهاباً في العالم اليوم. لقد أصبح “كابرانات” أميركا  يُفكّرون بأرجلهم وبما يمتلكون من أحذية عسكرية، ولم يعد العالم يفهم ماذا يمكن لأميركا أن تفعله بعد أن أصبح العالم ينظر إليها على أنها مُجرَّد ورشات للاغتسال بالدم، وأن جنودها أصبحوا ألعوبة بيد الأوهام بل ومُجرَّدين من كل القِيَم إلا قِيَم الكذب وسفاهة الأطفال!

أو ليست الحضارة تسقط بسقوط القِيَم كما يقول المؤرِّخ الأميركي بول كينيدي وكما يؤكِّد عليها الناقِد الاجتماعي الأكثر قراءة في العالم اليوم نعوم  تشومسكي؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock